حوار مع الشاعر محمد علي الرباوي
في قصائده شمس لم تكسرها الليالي، وفي شعره انطلاق طيور البحر المنفية، وفي صوته ما يوحي بالطمأنينة في خضم وحشية هذا العالم. يأتي القصيدة من حيث يريد ومتى يريد، ويجعل من الشعر –ليس مجرد بيت وكلمة فحسب- ولكن يخلق منه صورة، تشكيلا، ورسوما. إنه شاعر غجري تستهويه الثورة على خرائطية العالم واستنطاق كينونة الأرض، إنه شاعر شامخ فوق ربى القصيدة الجميلة، سيد الإستعارات، ووشوشت لنا قصائده قائلة ما قاله أفلاطون: «إن أعظم شيء أن تكون سيد الإستعارات». هو رمح القصيدة المغربية القادم من الصحارى والفيافي، المتزين بلغة القرآن، الشاعر محمد علي الرباوي، أهدى لنا خضرة نخيل قلبه وكان هذا البوح المفتوح على الروح….
حدثنا عن الهوية والميلاد الإبداعي؟
حين استنشقت نسائم الحياة، ككل وافد جديد كانت رسالتي إلى الدنيا صرخة قوية، كانت موجة من الأصوات الموزونة، لكنها تفتقر إلى الإيقاع، هذه الصرخة، حين يتم تأويلها تعطي دلالة رهيبة، إنها الرفض المبكر لهذا العالم المليء بالمظالم والباحث عن العدالة بين الأدغال، هذه الأصوات هي أول ما قلناه وأول ما يقوله كل من يطأ هذا العالم أول مرة.
حين بدأت أخطو خطواتي بمدينة سيدي قاسم، كنت أرسل عيني عبر النافذة لتلتقط أذناي نقرات كناوة وهي تعبر الزقاق، وتجمع التبرعات السخية التي تنثرها النساء من خلف الأبواب، كانت هذه النقرات تتسلل إلى أعماقي وتبللني بنشوة روحية وقتئذ لم أكن أدري سر هذه النشوة.
حين بدأت أتعلم الكلام وبدأت أنطق العبارات الأولى، كان أول طلب أتقدم به إلى والدي رحمه الله هو : «اشتر لي الآلة الإيقاعية النحاسية التي يلعب بها كناوة»، لم يكن والدي رحمه الله يرد علي لا بالصوت ولا بعبارات الوجه.
يوم إعذاري، أخذت البندير وصرت أوقع عليه ضربات يصاحبها غناء موضوعه وصف ما بالغرفة من أثاث، وهي الغرفة الوحيدة التي يتألف منها منزلنا، ما زالت أمي –أطال الله عمرها- إلى يومنا هذا تروي عبارات الأغنية التي ألفتها وكنت أرددها بكلمات لم تكن أصواتها فصيحة ونظرا لجو الفرح فإن أبي لم يعلق، أو لم ينتبه.
قبيل الاستقلال رحلنا إلى وهران ومكثنا بها سنة كاملة، لكن شراسة الاستعمار بها أرغمتنا على العودة إلى المغرب الذي استقل يوم وصولنا إلى وهران فاختار والدي أن نستقر بتنجداد مسقط رأسي ليعود إلى وهران.
في تنجداد، وأنا في السادسة من عمري، حضرت مأتما بالقصر الذي أسكنه (واسمه قصر أسرير) كان المأتم تتصدره امرأة بثوب أسود، تبكي وتعدد محاسن الراحل أو الراحلة وجوقة من النساء تردد بعدها عبارات لم أكن أفهمها لأن نغمة البكاء كانت تمنعني من فك شفرات الكلمات أعجبت بذلك النغم الحزين، ووجدت فيه نشوة ساحرة تدفعني إلى البكاء لا أدري كنهه، ولهذا كنت أحرص على حضور المأتم حرص من يتتبع السهرات الموسيقية.
من هذا وذاك وجدت نفسي ميالا إلى الموسيقى. بعد عودتي إلى سيدي قاسم سنة 1957 حرصت على مشاهدة الأشرطة السينمائية، للاستمتاع ليس فقط بالبطل أو بالقصة ولكن بالموسيقى التصويرية للفيلم، وأذكر أن مقدمة «يا قلبي يا مجروح» وخاصة الجملة الموسيقية التي تؤدي بالكنترباس كانت تذكرني بالمأتم التي كنت أتلذذ بسماعها بتنجداد، والتي كانت تدفعني إلى البكاء، وكانت موسيقى «لحن الخلود» الجميلة هي التي زادت في تطلعي إلى أن أصبح موسيقيا.
لكن كيف والأسرة محافظة لن تسمح لي بأن أتعاطى هذا الفن الذي ارتبط عندها بالعبث والمجون، فكان البديل هو الشعر الذي كتبته وأنا تلميذ بالسنة الثانية ابتدائي لم أكن أعرف ما الشعر لكن الكلام الذي كنت أكتبه ظانا أنه شعر كنت أسميه «أغنيات»، هذه الأغنيات كنت أكتبها سرا، لأن والدي رحمه الله عثر على بعضها يوما ضمن أوراقي فعاقبني عقابا شديدا بدعوى أن هذا سيمنعني من التركيز على دروسي، ولهذا صرت أكتب وأخفي عن الناس ما أكتب، هذا الفعل صاحبني منذ طفولتي المبكرة إلى أن عرفني الناس بالشاعر.
نعود للوراء لننبش ذاكرتك. أول نص نشر لك؟ كيف استقبلته أنت؟ ثم محيطك العام؟
كتبت أول أغنية وأنا في الصف الثاني ابتدائي، بعض ألفاظها فصيح والبعض الآخر عامي، مقتبسا إيقاعها من إيقاع أغنية كانت –لاشك- معروفة، أطلعت عليها زميلا لي بالصف اسمه قاسم، كان أكبر سنا، كان كثير الكلام، يدعي معرفة كل شيء، مع أن ترتيبه الأخير في الامتحانات، عرضت عليه الأغنية فلما سمع نصها قال لي سأحملها إلى إذاعة الرباط لأقدمها إلى أحمد البيضاوي الذي أعرفه صدقت كلامه فسلمته النص، لكن ما إن افترقنا حتى التقيت بصديق آخر اسمه أحمد، أخبرته بما حدث بيني وبين قاسم فرد علي: أن قاسم سيدعي النص لنفسه ليستفيد من التعويض المادي الذي تقدمه الإذاعة، فطرت إليه واسترجعت النص بعد أن أدعيت أني لا أرغب في أن يغنيه البيضاوي. التحقت بالإعدادي، ومع المراهقة، انفجرت شعرا، لكن النصوص التي كنت أكتبها لم أكن لأحتفظ بها خوفا من أن يعثر عليها والدي رحمه الله.
في السنة الأولى إعدادي، تعرفت على «العربي» وهو تلميذ كان يعيش منعزلا ليس له سوى صاحب واحد اسمه «حسن»، كان حسن هذا من سوس يسكن في غالب الأوقات وحده تعرفت عليه عن طريق العربي كان حسن يملك عودا صنعه من صحيفة زنكية، كنت أدمن زيارته لأنفرد بالعود.
ذات يوم خرج تلاميذ القسم الأول إعدادي رقم (3) إلى المصلى لإجراء مباراة في كرة القدم، كان العربي لاعبا ماهرا، ولكنه علم أني لا أرغب في اللعب ففضل أن نرافق الأصدقاء للفرجة فقط حين انطلق اللعب أخذني العربي إلى ركن بالمصلى وأخرج من محفظته كراسا به أشعار:
- ما هذا؟
- إنه شعري..
وأخذ يقرأ على أشعاره. كان هذا الدفتر أول ديوان أراه بعيني، جمع فيه صاحبه كل أشعاره، حين أطلعت عليه أردت أن أقول له: أنا أيضا أكتب الشعر ولكن لم أجد بين يدي ما أقدمه.
ليلة ذاك اليوم، أخذت دفترا في حجم (50) صفحة وألفت تلك الليلة، أول ديوان شعري لي لأني كنت أرغب في أن أضعه بين يدي صاحبي صباح اليوم الموالي، ومنذ ذلك اليوم صار العربي وحسن صديقين، أو صارا جمهوري الأول.
المهم أن العربي هو أول من نبهني إلى ضرورة جمع الأشعار في كراس. صرنا نعتزل الأصدقاء نحن الثلاثة صرنا نصعد إلى غابة جميلة بجوار المدينة، لنقرأ الشعر وكنا نتصور أننا في مسرح كبير، كانت سنابل القمح تتمايل كلما هب عليها نسيم الربيع، كنا نعتبر ذلك التمايل ترنحا جماهيريا، إذن الجمهور الثاني الذي قرأت عليه أشعاري كان هو الطبيعة: كان هو سنابل القمح.
في السنة الأولى إعدادي –دائما- أطلعت على جريدة مغربية لعلها “العلم”، وجدت بها قصيدة لشاعر من سيدي قاسم اسمه بنتونسي أحمد كانت فرحتي قوية وعظيمة، كنت أتصور أن مدينة كهذه لا يمكن أن يكون بها شاعر، كنت أظن أن المدن الأندلسية (فاس، الرباط)، هي وحدها التي تحضن الشعر والشعراء.
من يكون أحمد بنتونسي؟ سألت عنه.. أخيرا علمت أنه معلم بالمدرسة الحسنية، وهي مدرسة حرة فإذن علي أن أتصل به لأتعلم الشعر على يديه، قبل أن أقترب منه أخذت أراقبه من بعيد.. كان أنيقا.. كان يشبه في أناقته أبطال الأفلام الرائجة وقتئذ، كان يرتدي ثيابا كانت تبدو لي فاخرة كنت لا أراه إلا عابرا الطريق من المدرسة إلى البيت أو من البيت إلى المدرسة ليس له صاحب.
كان أسطورة كيف أدنو منه؟ كيف أحيه؟ كيف سأسأله عن الشعر كيف أقول له: إني أكتب الشعر؟ لم أجد أجوبة لهذه الأسئلة، ولم أطرق بابه إلا بعد أن تقوى عودي أواخر الستينات بالرباط حيث صرت معلما ومن الرباط راسلته، وتلقيت جوابا منه، ودامت مراسلتنا سنة ثم انقطعت وغابت عني أخباره، لم أجلس إليه لم أصافحه ولعله لا يعرف ملامح وجهي.
المهم أن هذا الشاعر نبهني إلى التفكير في النشر فبدأت أراسل الجرائد الوطنية منذ 1962 إلى 1966، ولكن أشعاري لم تستطع أن تجد لها مكانا في صفحاتها ولم تشر الجرائد إليها في بريد القراء.
في سنة 1964، وأنا تلميذ داخلي بثانوية الحسن الثاني بالرباط، أصدرت مجموعة من التلاميذ مجلة مرقونة، نشرت لي نصا شعريا على وزن الطلاسم إيقاعا وفكرا والحق أن هذا النشر لم يترك في نفسي أثرا كبيرا، لأن رغبتي كانت أن أطل على القارئ عبر الجريدة أو المجلة.
كان علي أن أنتظر إحراق المسجد الأقصى فأكتب قصيدة تفعيلية بالمناسبة، إذ نشرت جريدة وطنية هذه القصيدة لكني لم أفرح، لأن الجريدة نشرت اسمي محرفا.
ولما لم أتلق استجابة من الصحافة الوطنية طرقت باب الصحافة العربية، وكان الشاعر الجزائري أبو القاسم الخمار أول من شجعني على النشر بعد أن أطلع على نماذج من كتاباتي فأخذ ينشر بعضا منها بالملحق الثقافي لجريدة “الشعب” وذلك منذ سنة 1970، كانت فرحتي عارمة بهذا الفتح وزادت فرحتي تأججا حين قدمت «الشعب» مجموعة من القصائد لشعراء عديدين توصلت بها للنشر، إلى الشاعر محمد علي الهواري ليعلق عليها، فكان أن اختار قصيدة “الرصد والجاز” (المنشورة بالبريد يصل غدا) واعتبرها أجمل وأحسن ما قرأ، كان هذا التعليق أول رأي نقدي تناول شعري وهذا شجعني على مواصلة النشر خارج الوطن.
من خلال مجلة الأديب البيروتية، تعرفت على الشاعر السعودي المرحوم محمد عامر الرميح الذي أعجبته محاولاتي فأخذ ينشرها تباعا في مجلة “الخواطر” اللبنانية. لم أكن أجرؤ، في سنة 70/71 على مراسلة المجلات الكبرى كالآداب والأديب والمجلة والهلال والفكر.. كنت أظن أن الوقت لم يحن بعد لكن في سنة 71، تصفحت عددا من مجلة المجلة، وكان صلاح عبد الصبور مسؤولا عنها، فإذا بها تنشر نصا شعريا لشاعر جزائري من جيلي أنه: أزراج عمر هذا النص شجعني على مراسلة المجلات الكبرى والمشهورة، فبدأت بالمجلة التي أرسلت إليها سنة 1971 قصيدة رفقة خطاب موجه إلى الشاعر صلاح عبد الصبور بعد أن وضعت الرسالة في صندوق الرسائل، عدت إلى مقر سكناي وفي الطريق اقتنيت العلم، وفي العلم الثقافي قرأت خبرا مضمونه أن «المجلة» قد توقفت عن الصدور.
بعد ستة أشهر أتاني خطاب من مصر، وهو أول خطاب يأتيني من أرض الكنانة، قبل أن أفتحه تساءلت: من يكون المرسل؟ كانت المفاجأة كبيرة.. لم أصدق.. أنه خطاب من صلاح عبد الصبور، فتحته بسرعة وأنا أرتعش، فإذا أوله : «الأخ الشاعر» : إذن فأنا شاعرا لماذا لم تعترف بي الصحافة الوطنية؟ هل محرر الصفحة الثقافية بالمغرب أعلم بالشعر وبأسراره من صلاح عبد الصبور؟ (..)
كان مضمون الخطاب اعتذارا من الشاعر لكونه لم يرد على خطابي وقت وصوله ومن خلاله أخبرني أن «المجلة» قد توقفت ونصحني بأن أبعث بالنص إلى مجلة الآداب البيروتية.
أستطيع أن أزعم أني قرأت هذه الرسالة أكثر من مائة مرة، ولكن حين تحررت من صدمة الدهشة انتبهت إلى أن الرسالة قدمت لي نقدا ترك أثرا عميقا في مسيرتي الإبداعية والعلمية، ذلك بأن بالقصيدة صورة شعرية غريبة، ومدهشة لم تعجب صلاحا، فبدل أن يقول لي أن الذوق العربي لا يقبل مثل هذه الصور قال «نحن المشارقة…» لفظة «مشارقة» أزعجتني فقلت: إذا كان المشارقة لا يقبلون مثل هذه الصورة فهم أحرار، أنا مغربي ولي خصوصيتي وهي خصوصية مستمدة بلا شك من طبيعة المغرب المتميزة ومنذ تلك الرسالة أخذت على عاتقي الاهتمام بالثقافة المغربية لاستثمارها في شعري، وحين التحقت بالجامعة طالبا، فأستاذا كان همي الوحيد هو البحث في الشعر المغربي والوقوف عند خصوصياته. ومع ذلك أعترف أن رسالة صلاح عبد الصبور، وما زلت احتفظ بها، هي التي شجعتني على النشر بالمجلات الكبرى.
شخصية أخرى شجعتني على النشر وإعادة نشره في أكثر من منبر.. أعني بها المرحوم عبد الله كنون الذي كان أول أو الوحيد الذي كتب عن البريد يصل غدا حين صدر سنة 75. لكن الفرحة التي انتظرتها هي أن أرى شعري بالصحافة الوطنية.
في سنة 73 نشرت لي جريدة العلم أول نص لي وعنوانه «فارس وجدة» لكن الجريدة نسيت أن تنشر اسمي، وبهذا حرمت من نشوة الفرحة لكن هذا السهو كان نعمة، فقد تلقيت رسائل من أصدقاء من بينهم مفدي أحمد، يخبرني أصحابها بأنهم قرؤوا قصيدتي، كيف علموا أنها لي.. هل معنى هذا أن لي أسلوبا خاصا؟ معنى هذا أن لي طريقة خاصة في الكتابة؟ (…)
كل هذا يحدث والعائلة لا علم لها بهذه الرحلة، لأن الشعر عندها زلة، فلا ينبغي أن أشعرهم بأني مورط في هذه الزلة.
كيف اخترت الشعر دون النثر؟ وإذا تعددت كتاباتك، أين تجد نفسك أكثر؟
ذكرت أن بداياتي كانت مع الموسيقى، كنت أتمنى أن أكون موسيقيا، لا مغنيا ولكن هذه الموهبة لم أتمكن من الإفصاح عنها، لأن الأسرة محافظة لا تسمح ولن تسمح لابنها البكر أن يكون مصيره مصير جده (أب الأم) الذي خالف طقوس العائلة، لأنه «أمدياز» فهاجر بكمانه وأشعاره، واستقر بالجزائر حيث مات ودفن بها، الموسيقى عيب لهذا أجلت ممارستها، لكن التأجيل طال.. فكان الشعر بديلا. أخذ كل كياني ومنعني من ممارسة أي جنس أدبي آخر.
حدثنا عن طقوس الكتابة لديك؟
للحظة الإبداع طقوس، تختلف من مبدع لآخر. عرفت لحظة الإبداع عندي شكلين مختلفين طيلة رحلتي عبر أدغال الشعر، الشكل الأول كان حاضرا منذ خطواتي الأولى إلى مطلع سنوات السبعين، وهو شكل بسيط ذلك بأني كنت خلاله أتحكم في لحظة الإبداع، كنت غالبا ما أستدعيها كلما رغبت في ذلك لأن هذا ينسجم مع رغبتي في التجريب وقتئذ، والتجريب غالبا ما يخضع لسلطة العقل، وصرامة الوعي ولعل شعراء جيلي قد عرفوا الحالة نفسها، فالالتزام الذي كان سمة السبعينات، يطلب هذا الشكل.
الشكل الثاني بدأ مع سنة 1973، واستمر إلى يومنا هذا، أي : أن هذا الشكل احتل تجربتي الشعرية منذ غادرت الرباط لأستقر بوجدة، في هذه المرحلة انقطعت عن الماضي، وخاصة المادي منه، فقدت كل أصدقائي، وخاصة أصدقاء الطفولة، فواجهت عالما جديدا، فرض على العزلة سنوات عديدة في مشرع حمادي، ثم في العيون (الشرقية) قبل أن أستقر بوجدة سنة 1978.
صارت في هذا الشكل لحظة الإبداع معقدة، صار سلطانها قهارا، تفرض سلطتها أنى تشاء، وأيد هذه السلطة على ممارسة سطوتها أني أصبحت أو من بأن الشعر سيرة ذاتية، ولهذا لا يمكن أن أكتب إلا ما له علاقة بهذه الذات.
تبدأ الولادة بتوتر شديد يطفو على صفحة جسدي، أكون سريع الغضب، أغضب وأثور لأتفه الأشياء، ولكي أقي أهلي وأصدقائي من لهيب هذه الحالة كنت أفضل العزلة، هذه الحالة تستمر أياما خلالها تزدحم الأبيات في داخلي، ثم بعد ذلك تأتي لحظة التدوين، في هذه اللحظة قد أكتب في أي مكان، وإن كنت أفضل مكانا يعج بالصخب والضجيج، فإن كنت في بيتي، أسمع للراديو بأن يرفع صوته، أكتب ولا أهتم بما يقول : كان صمما من نوع خاص يحتل أذني، وإن كنت في مقهى، فلا بد أن تكون ملأى بالرواد، ولهذا كثيرا ما «أكتب» في الشارع المزدحم.
حين يتم تدوين القصيدة، لا أطلع أحدا على أبياتها حتى أقرأها، لكن كيف أقرأها؟ في هذه الحالة لا بد من مكان هادئ، لأن القراءة تكون بصوت مرتفع، وأثناء القراءة المتكررة، قد أغير بيتا ببيت، أو لفظة بأخرى القراءة تكون أحيانا قراءة عادية، وأحيانا تكون منشدة، هذه العملية تتكرر أياما وربما شهورا، وتتوقف عندما ألاحظ أن النص لم يعد يقبل التنقيح، بعد ذلك أطلع عليها أصدقائي، على أن النشر لا يتم إلا بعد مرور عدة أشهر.
ما هو مرجعك المباشر الذي يغذي شعرك؟
الفكر والأدب عنصران متلاحمان، يتبادلان التأثير، وهذا في الحقيقة يخدم النص الأدبي، إذ يجعله عملا عميقا، وقد يبدو للبعض أن المبدع حين يكتب نصه تتلاطم في ذهنه الأمواج المعرفية فتجرف تيار الإبداع، هذا التصور ممكن وجوده ولكن الأمر بالنسبة إلي مختلف.
الشعر عندي سيرة ذاتية، أي إن الشعر تعبير عما يعانيه الشاعر، ولأني أومن بهذا فإنني أكتب بحرية، لا أراقب ما تمليه علي لحظة الإبداع، لا أتحكم لا في الموضوع ولا في إيقاعه، لأن النص حين يلح على الخروج يخرج دفعة واحدة، والمضمون قد تلاحم من شكله، والفكر قد غلف كل لفظة فيه، بل وكل صورة شعرية.. ولهذا فاللاوعي الذي امتلأ بالفكر وبالتصورات يحضر أثناء الكتابة، والتجربة المعبر عنها هي التي تنتفي مما يحمل هذا اللاوعي ما تراه مناسبا.
أكيد أن لديك –نظرا لحسك المرهف- اهتمامات أخرى، فنية خاصة، ما علاقة ذلك بتجربتك الشعرية؟
الأفضل للشاعر ألا يرتبط بوظيفة، لأنها تحد من انطلاقه، ماذا يفعل حين يكون بالمدرج وهو يلقي محاضرة ثم فجأة يلمع الإلهام في صدره؟ أيترك المحاضرة؟.. أيستطيع أن يتخلص من رعشة الوحي؟ لهذا فأكثر الشعراء انتشارا في عالمنا العربي هم الشعراء الذين ارتبطوا بوظائف شكلية : درويش، أدونيس، البياتي (..).
لكن، ثمة اهتمامات قد يباشرها الشاعر ولا تحد من تدفق الشعر فيه، بل ربما قد تخدمه. فمن بين اهتماماتي، مشاهدة معارض للفنون التشكيلية، لأن لغة الألوان عندي هي نفسها لغة الشعر، وأذكر أن أول لوحة شاهدتها وزلزلتني زلزالا روحيا عنيفا، كانت لرسام مغربي لعله الغرباوي أو الشرقاوي، شاهدتها بالرباط خلال سنوات الستين، وكنت برفقة رسام صديق، حين لمست عيني ألوانها أصابني الذهول، وتحول إلى إعجاب حين أخذ الصديق الرسام يوضح لي لعبة الألوان، ومنذ ذلك التاريخ أدمنت، وأنا بالرباط حضور المعارض، هذا الجانب حاضر في شعري بل لعله وراء ما ببعضه من غموض خاصة ما كتبته ما بين 1971 و1974.
الاهتمام الثاني يتمثل في مشاهدة الأفلام، وخاصة ما كان منها فكاهيا، إذ كنت معجبا بالممثلين الفرنسيين «لوي دوفنيس» و»بورفيل» حين يضمهما شريط واحد، كان الأول نحيفا، يمثل دور العاقل، بينما كان الثاني بدينا ويمثل دور الأبله، لكن الفيلم يقدم العاقل أبله، والأبله عاقلا، هذه المفارقة كانت مثار إعجابي لأنها ملح تلك الفكاهة هذه المفارقة صارت إحدى أهم تيمات قصائدي. لكن لي هواية أخرى لا علاقة لها بالأدب، وهي قراءة تعليق المعلقين الرياضيين في الصحف، ذلك بأني حين آخذ الجريدة، أبدأ قراءتها من الصفحة الأخيرة ثم بعد ذلك أتوقف عند الصفحة الرياضية.
مع تحياتي :: بيونة